قد جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى الاختِلافِ وَتَعَدُّدِ وُجهَاتِ النَّظَرِ0000 وَمِن طَبِيعَةِ البَشَرِ أَن يَتَمَسَّكَ كُلٌّ بِرَأيِهِ 0000وَيَتَعَصَّبَ لَهُ0000 إِلاَّ أَنَّ لِلشَّيطَانِ في ذَلِكَ مَدَاخِلَ لإِفسَادِ ذَاتِ البَينِ0000 حَيثُ يُوَسِّعُ رُقعَةَ الاختِلافِ حَتى يَكُونَ شِقَاقًا وَنِزَاعًا0000 وَيَنفُخُ في الآرَاءِ حَتى لا يَرَى أَصحَابُهَا الصَّوَابَ إِلاَّ فِيهَا0000 وَمِن ثَمَّ تَتَكَوَّنُ المُشكِلاتُ بَينَ النَّاسِ0000 وَتَنشَأُ في دُنيَاهُم قَضَايَا وَرَزَايَا00000 مِن قَتلٍ وَإِزهَاقِ أَروَاحٍ00000 وَتَعَدٍّ عَلَى الأَموَالِ وَهَتكٍ لِلأَعرَاضِ0000 وَقَد تَتَجَاوَزُ الخِلافَاتُ الأَفرَادَ لِتَبلُغَ الأُسَرَ00000 وَقَد تَزِيدُ فَتَصِلُ إِلى القَبَائِلِ.
وَمِن ثَمَّ يَجِيءُ الإِصلاحُ بَردًا يُطفِئُ لَهِيبَ الخِلافِ0000 وَعِلاجًا تُسَكَّنُ بِهِ حَرَارَةُ النِّزَاعِ0000 وَسَلامًا تُدفَنُ بِهِ العَدَاوَاتُ0000 فَتَجتَمِعُ القُلُوبُ وَتَأتَلِفُ الأَفئِدَةُ00000 وَتَسكُنُ النُّفُوسُ وَتَزُولُ الوَحشَةُ00000 وَيَذهَبُ غَلَيَانُ الغَضَبِ000 وَتَخمُدُ فَورَةُ التَّعَصُّبِ000 وَيَدخُلُ الرِّضَا عَلَى المُتَخَاصِمِينَ0000 وَيَعُودُ الوِئَامُ إِلى المُتَنَازِعِينَ.
وَلَقَد جَاءَ في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ( ص ) مِنَ التَّرغِيبِ في الإِصلاحِ0000 وَالحَثِّ عَلَيهِ مَا بِمِثلِهِ تَقوَى العَزَائِمُ عَلَى فِعلِ الخَيرِ00000 وَتَتَشَوَّقُ النُّفُوسُ لِبَذلِ المَعرُوفِ0000 قَالَ اللهُ تَعَالى: لا خَيرَ في كَثِيرٍ مِن نجوَاهُم إِلاَّ مَن أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعرُوفٍ أَو إِصلاحٍ بَينَ النَّاسِ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَالصُّلحُ خَيرٌ، وَقَالَ جَلَّ وَعلا: فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم، وَقَالَ عَزَّ شَأنُهُ: إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ فَأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُم وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُرحمُونَ، وَقَالَ (ص ) : ((الكَلِمَةُ الطَّيبةُ صدقَةٌ، وَبِكُلِّ خَطوَةٍ تَمشِيهَا إِلى الصَّلاةِ صَدقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ))، وَقَالَ (ص): ((أَلا أُخبِرُكُم بِأَفضَلَ مِن دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟)) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((إِصلاحُ ذَاتِ البَينِ))، وَعَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ النَّبيَّ قَالَ لأَبي أَيُّوبَ: ((أَلا أَدُلُّكَ عَلَى تِجَارَةٍ؟)) قَالَ: بَلَى، قَالَ: ((صِلْ بَينَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا، وَقَرِّبْ بَينَهُم إِذَا تَبَاعَدُوا)).
وَلَقَد بَلَغَ مِن مَحَبَّةِ الإِسلامِ لِلصُّلحِ أَن أَجَازَ مِن أَجلِهِ الكَذِبَ وَالتَّوَسُّعَ في الكَلامِ، قَالَ (ص) : ((لَيسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصلِحُ بَينَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيرًا أَو يَقُولُ خَيرًا))، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((لا يَصلُحُ الكَذِبُ إِلاَّ في ثَلاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امرَأَتَهُ لِيُرضِيَهَا، وَالكَذِبُ في الحَربِ، وَالكَذِبُ لِيُصلِحَ بَينَ النَّاسِ)).
وَقَد حَرِصَ إِمَامُ الأُمَّةِ000 وَقَائِدُهَا وقُدوَتُهَا عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ 000عَلَى الصُّلحِ وَسَعَى فِيهِ وَبَاشَرَهُ بِنَفسِهِ000 فََعَن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ أَهلَ قُبَاءٍ اقتَتَلُوا 0000حَتى تَرَامَوا بِالحِجَارَةِ0000 فَأُخبِرَ رَسُولُ اللهِ (ص) بِذَلِكَ فَقَالَ: ((اِذهَبُوا بِنَا نُصلِحْ بَينَهُم))، وَعَنهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) بَلَغَهُ أَنَّ بَني عَمرِو بنِ عَوفٍ كَانَ بَينَهُم شَرٌّ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ (ص) يُصلِحُ بَينَهُم في أُنَاسٍ مَعَهُ... الحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَأَخَّرَ مِن أَجلِ ذَلِكَ عَن صَلاةِ الجَمَاعَةِ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا وَعِظَمِ مَكَانَتِهَا.
أَيُّهَا الأخوة والأخوات000 الإِصلاحُ بَينَ النَّاسِ مُهِمَّةٌ عَظِيمَةٌ وَعَمَلٌ جَلِيلٌ0000 لا يَقوَى عَلَيهِ إِلاَّ الرِّجَالُ الأَخيَارُ0000 وَلا يَتَحَمَّلُهُ إِلاَّ الأَسيَادُ الأَبرَارُ0000 مِمَّن شَرُفَت أَقدَارُهُم وَكَرُمَت أَخلاقُهُم0000 وَطَابَت مَعَادِنُهُم وَزَكَت نُفُوسُهُم0000 وَقَدِ امتَدَحَ النَّبيُّ (ص) بِذَلِكَ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا0000 فَعَن أَبي بَكرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ (ص) عَلَى المِنبَرِ وَالحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ إِلى جَنبِهِ وَهُوَ يُقبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيهِ أُخرَى وَيَقُولُ: ((إِنَّ ابنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَن يُصلِحَ بِهِ بَينَ فِئَتَينِ عَظِيمَتَينِ مِنَ المُسلِمِينَ)). وَقَد كَانَ مِن أَمرِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَمَا قَالَ النَّبيُّ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ حَيثُ قَدَّمَ مَصَالِحَ المُسلِمِينَ العَامَّةَ عَلَى مَنفَعَةٍ خَاصَّةٍ0000 وَآثَرَ البَاقِيَةَ عَلَى الفَانِيَةِ0000 وَتَرَكَ الرِّئَاسَةَ وَزَهِدَ في الزَّعَامَةِ0000 وَتَنَازَلَ عَنِ الخِلافَةِ لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُم أَجمَعِينَ حَقنًا لِدِمَاءِ المُسلِمِينَ وَإِصلاحًا لِشَأنِهِم، وَإِيثَارًا لِمَصلَحَةِ اجتِمَاعِهِم وَائتِلافِ قُلُوبِهِم.